سيد عكا، هذا هو اللقب الذي أطلقة سليم قبعيين الكاتب والمترجم الفلسطيني المشهور على حضرة عبد البهاء، الإبن الأرشد لحضرة بهاء الله، مؤسس الديانة البهائية. وفي خضم كل المحاولات اليائسة التي تقوم بها الجهات المتطرفة لتشويه سمعة الدين البهائي وقياداته، واتهامهم مرة بالجنون وأخرى بالفسق والفساد والفجور، رأيت أنه من الضروري إدراج ما قاله معاصري قيادات الدين البهائي العرب في وصفهم لحياة ومسلك هذه القيادات الذي لا يشوبه شائبة وإنما هو مثال في حسن السيرة والسلوك والعمل الصالح. وأدرجت في نهاية المقال معلومات عن بحث جديد قام بة الشاعر والباحث والأديب البحريني المعاصر
علي الجلاوي في كتابه عن البهائيين في البحرين الذي نشر عام 2005م. ومع أن الكتاب يتضمن بعض الاستنتاجات التي تعبر عن رأي الكاتب الشخصي ولا تتفق مع ما يؤمن به البهائيين، الا أنه محاولة جادة تعرض بامانة ونزاهة تاريخ البهائيين في البحرين وحرصهم على خدمة مجتمعهم كما تأمرهم تعاليم دينهم وكما كان يفعل حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء. ولقد اعتمدت قصدا أن أعرض هنا ما كُتب عن حضرةعبد البهاء بقلم سليم قبعين، العربي غير البهائي الذي عرف حضرة عبد البهاء شخصيا لأوضح للقارئ العربي بأن هذا ما قاله العرب أنفسهم عن قيادات البهائية. ومن المؤسف أن زعماء الجماعات الإسلامية المتطرفة الحاليين الذين يفترض أن يكونوا على علم ببعض هذه الكتابات لان البحث في شخص وتاريخ حضرة عبد البهاء مدون في الكتب الإسلامية ولان قبعين والبحري وغيرهم من أعلام الكتاب والصحفين العرب في ذلك والوقت مدحوا البهائية وتعاليمها، ولان قادة مرموقين من كبار العرب والمسلمين ومنهم الأستاذ الإمام محمد عبده نفسه قد قالوا رأيهم في وصف خصال حضرة عبد البهاء الحميدة، فانا أستغرب كيف يستمرالعديد من قادة المسلمين الدينيين الحالين في مصر وغيرها في نشر أكاذيبهم وتلفيق الادعاءات ضد البهائية والبهائيين. ومن المؤسف أيضا أننا لا نرى من يدعو الى إيقاف ذلك وإظهار الحق بين المسلمين سوى القلة القليلة
في رأيي، أن تكون قائدا دينيا بغض النظر عن الدين الذي تتبعه، يفرض عليك أن تكون موضع ثقة وأن لا تخاف من قول الحق "ولو كان على قطع رأسك".. لا يعني اعترافنا بالمزايا الطيبة لمن نختلف معهم في الرأي اعترافا منا بما يؤمنون به، فهناك فصل واضح بين ما يتفق وما يختلف عليه الاسلام والبهائية، ولن يجعل الذين يقولون كلمة حق في البهائية منهم أتباعا لها لمجرد اعترافهم بخصال البهائية الحميدة والمفيد مما تطرحه. فمن الجدير بالقيادات الدينية أن تكون مثالا للصدق والإنصاف أذا كانت ترغب في رضى الله واحترام أتباعها. ومن الغريب ان هذا كان يعتبر في ثقافتنا العربية من الممارسات المتفق عليها كضرورة اجتماعية، فماذا جرى لعاداتنا وتقاليدنا العريقة؟ فها نحن نرى المرتزقة اليوم، تحت لواء الدين، يذبحون الثقافة والعادات العربية ويقدمونها قربانا للحفاظ على مناصبهم وإضلالا منهم للناس وبعثا للفتنة بينهم. وأنا كغير مسلمة أرى أن هذا ليس بالإسلام السمح من شيء، فكيف لا يرى بعض المسلمين أنفسهم هذا؟
وأعود هنا للحديث عن سليم قبعين وما كتب. سليم قبعين كما ذكرت، كاتب ومترجم فلسطيني ولد في مدينة الناصرة في 1870 م. وكان من أوائل خريجي دار المعلمين الروسية فيها. شارك في إنشاء عدة صحف مصرية و كان له نشاط وفير في مقالاتها. من إنجازاته المشهورة تعريف القارئ العربي بكبار الكتاب الروس أمثال مكسيم غوركي وتولستوي وبوشكين وغيرهم من خلال ترجمته للعديد من كتبهم. ومن بين الأعمال الأخرى التي ترجمها كتاباً لتولستوي بعنوان "حِكَم النبي محمد" ترجمه عام 1912 م. وانقل فيما يلي حرفيا من كتاب الأستاذ سليم قبعين بعنوان
عبد البهاء والبهائية (يدرج موقع
حقائق عن الدين البهائي بابان من أبواب هذا الكتاب) وهو كتاب نشرته دار العمران في القاهرة عام 1922 م . ويضم الكتاب عددا كبيرا من النصوص والمراسلات التي تمت بين حضرت عبد البهاء وأعيان العرب في المنطقة. ويضم الكتاب أيضا عدد كبيرا من القصائد والمراثي التي قالها العرب حين وفاة عبد البهاء وفي مناسبة ذكرى الأربعين من وفاته، والعديد من هذه النصوص مدرج أيضا في كتاب
عبد البهاء عباس والديانة البهائية. تأليف جميل البحري (صاحب المكتبة الوطنية ومجلة زهرة الجميل) - المكتبة الوطنية - حيفا - 30 تشرين الثاني 1921م. وهنا نص من كتابه
قلنا أنّ عباس أفندي أقام نفسه مثالاً في أعمال البرّ وخصال الخير، وقدوة حسنة للمؤمنين والراغبين في سلوك سبيل السلامة، فلا بأس أنْ نلخّص لحضرات القرّاء ما مهّد به المستر فيليب المحامي بمدينة نيويورك بأمريكا تاريخه عن البهائية، من الكلمة التي كتبها عن عباس أفندي وجعلها طالعة كلامه قال: نزلت في سياحتي الفلسطينية بمدينة عكاء في منزل عتيق يطلّ على شارع مبلّط قليل الاتّساع، بحيث يتسنّى للرجل النشيط أنْ ينظفه في لمحات قليلة، تعلوه شمس فلسطين اللاّمعة المضيئة. وعلى يمينه السور البحري القديم والبحر الأبيض المتوسط
وفي ذات يوم (بعد شهر أقمته بذلك المنزل) بينما نحن جلوس، وإذا بجلبة عظيمة وضجّة وضوضاء على بعد ثلاثين قدماً منّا، ففتحنا النافذة فوقع نظرنا على جملة أناس بأثواب بالية مرقّعة ممزّقة. ثمّ نزلنا لنرى من هؤلاء، فعلمنا أنّهم من البائسين الجديرين بالإحسان، إذ تراهم بين عميان ونحاف نحال صفر الألوان، وشيوخ طاعنين في السّن من ذوي العكازات العاجزين عن المشي والضعاف الذين لا يمشون إلاّ بشقّ الأنفس ومن بينهم نساء مقنّعات، وبانكشاف المقنّعات عرفنا أنّهن لم يسترن إلاّ البؤس المؤلم
ومنهن من يحملن أطفالاً نحال الأبدان، صفر الألوان، ويبلغ هذا الجمع نحو مائة شخص سوى كثيرين من الأطفال وهم يكوّنون في مجموعهم جميع العناصر التي يراها المارّ في هذه الشوارع من شوام وعرب وزنوج وغيرهم. وما لبث هذا الجمع أنْ اصطفّوا منتظرين، فطفقنا ننظر ماذا ينتظر هؤلاء، وإذا بباب قد فتح وخرج منه رجل متوسّط القامة منتظم التركيب، يلبس قفطاناً أبيض وعلى رأسه العمامة ويبلغ من العمر نحو ستين سنة، ويتدلّى شعره المشوب بالشيب على كتفيه عريض الجبهة الوضاحة العالية، قاني الأنف خفيف الشارب واللحية المستديرة التي وخط شعرها المشيب ذو عينين زرقاوين واسعتين مع نظر ثاقب وهيئة بسيطة إلاّ أنّ في انتظام حركاته ما يدلّ على الجمال والجلال
خرج هذا الرجل واتّجه نحو الجميع، وبوصوله إليهم أخذ يحييهم بألفاظ لا نفهمها، ولكن ما يرى من هيئته ينم عن رقّة وشفقة، ثمّ وقف في زاوية ضيّقة من الشارع، وأشار إليهم بالإقبال عليه، فالتفّوا حوله التفاف السوار بالمعصم، إلاّ أنّه كان يبعدهم عنه بلطف ويدعوهم بالمرور أمامه واحداً واحداً، وكلّما مرّ عليه رجل من القوم رأيت يده إليه ممدودة حيث يضع بعض النقود وهو يعرفهم جميعاً ويلاطفهم بوضع يده على وجوههم تارة وعلى أكتافهم ورؤوسهم تارة أخرى، ويوقف بعضهم ويستعلم عن حاله، ويحيّي بعض العبيد المتقدمين في السن بالاستعلام منه عن أمره ببعض عبارات رقيقة، فيبدو السرور على وجه الرجل وتظهر ثناياه البيضاء من وجهه الأبنوسي عند الجواب. وتارة يوقف بعض السيدات ويلاعب طفلها بشفقة عظيمة، وحين مرورهم عليه، وتقبيل بعضهم يديه يحيّيهم جميعاً بقوله (مرحباً مرحباً) وعلى هذا النحو يمرّ الجميع
وقد كان الأطفال ملتفّين حوله وأيديهم ممدودة، ولكنه لم يعطهم شيئاً، وحين همّ بالرجوع، نثر قبضة من العملة النحاسية حيث كان الكلّ من أجل ذلك في نزاع. وقد كان صاحبنا الملقّب بأبي الفقراء متبوعاً بجملة رجال يلبسون الطرابيش الحمر، ويظهر على وجوههم الحنان والبِشر، وكانوا وقوفاً بالقرب منه، ولهم يد في تنظيم هذا الجمع. فلمّا قفل راجعاً، تبعوه مع غاية الاحترام حيث يتأخرون عنه مسافة وكلّما أرادوا نداءَه دعوه بلفظ (المولى)
ويمكنك أنْ ترى هذا المنظر بشوارع عكاء في أيّ يوم من أيام السنة، وله نظائر مماثلة له، لكنّها لا تحدث إلاّ في ابتداء الشتاء حيث يتألم الفقراء. ويمكنك (لو دلّك إنسان على الزمان والمكان) أنْ ترى فقراء عكاء مجتمعين في أحد حوانيت بائعي الملابس ليستلم كلّ منهم رداء من (المولى) وهو يلبس أغلبهم بنفسه وخصوصاً العجزة والمقعدين ويقيسها عليهم بيديه قائلاً لهم (مبروك). ويوجد بعكاء نحو خمسمائة أو ستمائة فقير يأخذ كلّ منهم رداء جميلاً منه كلّ عام. وفي أيام المواسم يزور الفقراء في بيوتهم ويسألهم عن حالهم وعن صحتهم وراحتهم ذاكراً أسماء الغائبين منهم، ويترك هدايا للجميع. وليس فقط هؤلاء الشحاذون الذين يوجّه عنايته إليهم، بل ينتظم في سلك عنايته أيضاً أناس لا يمكنهم إراقة ماء وجوههم بذلّ السؤال، وإنّما يتألمون في نفوسهم كالذين لا يكفيهم مكسبهم اليومي ولا يعول عائلاتهم. لمثل هؤلاء يرسل الخبز سرّاً بحيث لا تعرف يمينه ما تصنعه شماله. الناس جميعاً يعرفونه ويحبونه غنيهم وفقيرهم، كبيرهم وصغيرهم، حتّى الأطفال في أحضان أمهاتهم لو سمع أنّ أحدهم ألمّ به المرض مسلماً أو مسيحياً أو متديناً بأيّ دين، كان يهتم بذلك كثيراً وتراه عندهم بجانب فراشهم كلّ يوم أو يرسل رسولاً أميناً. ولو كان العليل فقيراً واقتضى الحال طبيباً أرسل في طلب طبيب وفي استدعاء الإسعافات الضرورية من الدواء. وإذا وجد أنّ سقف المكان غير محكم أو زجاج بعض النوافذ مكسوراً وأنّ ذلك مهدّداً للصحة أرسل في استحضار أحد العمال للإصلاح، ثم انتظر تمام العمل ليتأكد من حصول المطلوب. وإذا تعب أحدهم أو أُلقي أحد أقاربه في أعماق السجون أو وقع تحت طائلة القانون أو حدثت له مشكلة نأى عن حملها، توجّه في الحال إلى (المولى) ليستنجده أو ليستمد منه النصيحة أو المعونة. نعم يحضر الجميع ليستمدوا منه النصيحة، غنيهم وفقيرهم، كاستمدادهم من أب شفوق لهم وأظن أنّ القارئ يتوهّم في رجل جواد كهذا يعطي بلا حساب أنّه غني، لا وعمر الحقّ، ولو أنّه كان من أغنى عائلة في الفرس، ومع هذا فإنّ الرجل جرى عليه ما جرى على الجليلين، ذلك أنّه منذ خمسين سنة نفي وسجن هو وعائلته، وصودر بعض أملاكه ونهب البعض الآخر، ولم يبق له إلاّ القليل. وحيث أنّ ما لديه اليوم كذلك فهو يقتصد من نفقاته كي يتمكّن من الإحسان. وملابسه عادة قطنية رخيصة الثمن، ولا يسمح لعائلته بعيشة الرفاهية ولا يأكل سوى مرّة واحدة في اليوم ويكفيه شيء من الخبز والزيتون والجبن، أمّا غرفته فصغيرة وعارية من الأثاث وليس فيها سوى حصيرة. ودائماً يقول كيف أتمتّع بنوم الرفاهية بينما الكثير من الفقراء ليس لهم مأوى لذا ينام على البلاط ويلف نفسه بعبائته فقط
ومنذ مدّة تربو على أربعة وثلاثين عاماً، سجن هذا الرجل بمدينة عكاء، ولكن سجّانيه أصبحوا من أحبائه، فحاكم المدينة وقائد حاميتها يحترمانه ويبجّلانه كأنّه أخوهما، ولا يعتبران إلاّ نصائحه، ولا يعملان إلاّ برأيه، وهو محبوب من جميع طبقات شعب هذه المدينة كبيرها وصغيرها، وهو طبعاً محب للجميع كيف لا وهو المحافظ الوحيد للقانون الذي قنّنه عيسى الناصري (أنْ تحسن إلى من أساء إليك) فهل سمع أحدكم للآن برجل في العالم يفتخر بأنّه يقتفي أثر السيد المسيح الذي كان يعيش تلك المعيشة. هذا السيد بسيط بقدر عظمة روحه، ولا يطلب لنفسه شيئاً من التسلية أو الاحترام أو الراحة، فثلاث أو أربع ساعات كافية لنومه، وباقي وقته مصروف في إغاثة أهل البؤس والعوز ودائماً يقول أنا عبد الله وخادمه
هذا هو عباس أفندي، سيد عكاء، وفي تقديم ترجمته إلى القارئ قد ذكرت أخلاقه الخارقة للعادة والتي تؤثّر في القلوب تأثيراً عظيماً. ولكن هذه الصفات لم تكن إلاّ أزهاراً يانعة ملائمة للطبيعة الكائنة في محتويات وجوده. أمّا أحواله المتنوعة المختصّة بحياته، فإنّك تجده ثابتاً شديداً، بينما تجده في حالة أخرى لين الجانب شفوقاً حنوناً وهو في عائلته المحور الذي تدور عليه والرأس المفكّر المدبّر والوالد الحنون والزوج الودود، وهو بين الرجال قوي جدّي ذو عزم ثابت وفراسة صادقة وفكرة متوقّدة وحكم مسموع نافذ وإدراك حقّ وبين أتباعه منوط بكلّ الأعمال يدبر وينظم مصالحهم
هذا جزء بسيط مما أدرجه سليم قبعين عن مزايا وخصال حضرة عبد البهاء. سأحاول نشر المزيد من مقتطفات هذا الكتاب في مقالات قادمة. وأتمنى لو يقوم الدارسين العرب بالبحث في حقائق الأمور فيما يتعلق بالبهائية ونشر نتائج ابحاتهم ودراستهم وتوضيح تاريخ البهائية في العالم العربي وعلاقة البهائيين في المجتمعات العربية منذ بداية الدين البهائي حتى يومنا هذا. ولا يسعني هنا سوى أن أؤكد حاجتنا لمزيد من البحث العلمي الموضوعي الذي يهدف الى وصف حقيقة ونتائج التواجد الاجتماعي للبهائيين في المجتمعات العربية كما كتب ونشر الشاعر والأديب البحريني علي الجلاوي في كتابه: البهائية: السيرة – التأسيس – المعتقد (البهائيون في البحرين أنموذجا). لقد نشر هذا الكتاب عام 2005م ونشره مركز الجلاوي للدراسات والبحوث. ويمكن الاطلاع على تعليق على الكتاب بقلم علي أحمد الديري نشرته صحيفة الوقت البحرينية في عددها 355 بتأريخ 10 فبراير عام 2007م. وارجو أن يشجع عمل الاديب والباحث العربي علي الجلاوي أخرين بدراسة وضع البهائيين بينهم ونامل أن يستمر الجلاوي في بحثه عن الحقيقة ويسخر قلمه لتبينها للقاريء العربي مهما كان ما توصل اليه من نتائج. فالبحت عن الحقيقة في رأيي "مشوار عمر" . وفيما يلي معلومات عن الكتاب
رقم الناشر الدولي: ISBN 999019-66-05
العنوان:P.O. Box Manama, Bahrain.
رقم الفاكس: 973-1740-6027
jallawi@yahoo.com http://www.jallawi.org/